حوار مع الشاعر الفلسطينيّ أحمد دحبور | أرشيف

الشاعر أحمد دحبور (1946 - 2017)

 

المصدر: «مجلّة القاهرة».

زمن النشر: 15 آب (أغسطس) 1986.

الكاتب: مهدي مصطفى.

 


 

الشاعر العربيّ الفلسطينيّ أحمد دحبور (1946 - 2017)، من الجيل التالي لمحمود درويش (1941 - 2008) وسميح القاسم (1939 - 2014)، وُلِدَ في حيفا عام 1946، وانتقل مع أسرته إلى سوريا في سنوات التهجير الأولى عام 1948، وأصدر عددًا من المجموعات الشعريّة الّتي ظهرت في مجلّد كبير عام 1982، وشارك في عدد من المهرجانات الشعريّة العربيّة والدوليّة أحيانًا. ستصدر له مجموعة شعريّة هذا العام بعنوان «الحنين إلى المنفى»، كما كتب الشعر المغنّى حتّى ارتبط اسمه بـ «فرقة أغاني العاشقين» الفلسطينيّة الّتي تغنّي ما يكتبه خصّيصًا لها بالعامّيّة والفصحى، وهي أشهر فرقة غنائيّة فلسطينيّة هذه الأيّام. كما أنّ له اهتمامات مبكّرة بالتعامل مع الأوزان الشعريّة الصعبة، ديوانه «واحد وعشرون بحرًا» على سبيل المثال، عبارة عن إحدى وعشرين قصيدة، كلّ قصيدة تسلك وزنًا مختلفًا عن غيرها. أحمد دحبور، وإذ يزور القاهرة بعد غياب طويل، ترحّب به «مجلّة القاهرة» وتسعد أيضًا بمحاورته حول قضايا الشعر العربيّ الحديث منذ عام 1967. كما حاولنا أن تكون الأسئلة الّتي طرحناها حادّة وخادشة، كانت إجابات أحمد دحبور تلغرافيّة سريعة، عارية من أيّة رتوش.

 

«مجلّة القاهرة»: الشاعر الأصيل يتفاعل مع بيئته ويعبّر عن طموحها وأمانيها وشعورها وحضارتها... إلى أيّ مدى يتطابق أحمد دحبور مع هذه المقولة؟

أحمد دحبور: إلى المدى الّذي لا يمكن للشاعر أن يكون شاعرًا دون الوصول إليه؛ فإذا لم أتفاعل مع بيئتي، وإذا لم تؤرّقني أسئلتها ولوعاتها، وإذا لم أحلم بصيغتها الجديدة الناهضة، فكيف سأكون شاعرًا؟ هل أخترع عالمًا آخر أحلم من أجله؟ إنّني عربيّ فلسطينيّ وُلِدْتُ في مناخ النكبة الأولى، وعاصرت حربين كبيرتين بين العرب والصهاينة، وعشت تجربة الثورة الفلسطينيّة، وخلال هذه الفترة عايشت الأفكار الّتي عرفها جيلي وطموحات تحقيق الوحدة العربيّة وبناء الاشتراكيّة. مرورًا بالأسئلة الوجوديّة والاختبارات النظريّة العلميّة، ولم يكن هذا في كوكب المرّيخ، بل في الوطن العربيّ، ومن الطبيعيّ أن يصدر شعري عن هذه البيئة.

 

«القاهرة»: يرى بعض النقّاد بخروج شعراء المقاومة من الأرض المحتلّة خفوت حدّة صوت هؤلاء الشعراء وضياعهم في المدن العربيّة، وعدم تأثيرهم في جماهير الأرض المحتلّة، وأنت واحد من الّذين يعيشون خارج فلسطين، فماذا تقول؟

دحبور: لا أعرف هؤلاء النقّاد، ولا أعرف إذا كانوا موجودين أصلًا، ولو كانوا موجودين فإنّهم يبعثون على التسلية حقًّا، لأنّ معلوماتي المتواضعة تقول إنّ معظم أبناء الشعب الفلسطينيّ تشرّدوا من وطنهم عام 1948، ثمّ تشرّد منهم قسم وبقي قسم آخر عام 1967، ونشأت الحركة الثقافيّة الفلسطينيّة في الداخل والخارج معًا لتعبّر عن وحدة الشخصيّة الوطنيّة الفلسطينيّة وقرارها الوطنيّ المستقلّ، وعن انتمائها العربيّ. وقد اهتمّ النقّاد بغسّان كنفاني (1936 - 1972) وجبرا إبراهيم جبرا (1919 - 1994) وكمال ناصر (1924 - 1973) وغيرهم من الفلسطينيّيين الّذين عاشوا خارج فلسطين كما اهتمّوا بأدباء الداخل، من مثل إميل حبيبي (1922 - 1996) وسميح القاسم وفدوى طوقان (1917 - 2003). أمّا إذا كنت تقصد خروج محمود درويش من الأرض المحتلّة، فأنا أعيدك إلى كتابه الجميل الهامّ «يوميّات الحزن العاديّ» (1973) الّذي يسرد هذه التجربة، بحيث نفهمها دون أن نعمّمها. وبالمناسبة، فإنّ تأثير محمود في الأرض المحتلّة الآن أقوى منه في أيّ وقت سابق، وقد طبعوا هناك مجموعته الجديدة فور صدورها في تونس، فنفدت في شهر واحد. أمّا تأثيره في الوطن العربيّ فهو من الوضوح بحيث لا أحتاج التنويه به.

 

«القاهرة»: طبقًا لمبادئ المنهج التحليليّ للنقد الأدبيّ، ينبغي ألّا نخلط بين عالم القصيدة وعالم الواقع، بمعنى أنّ القصيدة تحمل بذورها من الواقع وتنمو في ذاتيّة الشاعر. إذن، كيف تنظر للقصيدة بعد كتابتها؟

دحبور: الشقّ الأوّل من السؤال يقرّر نظريّة معيّنة، من حقّي أن آخذ بها ومن حقّي أن أرفضها، أو أن أنتقي منها ما أشاء. لهذا، فلا أظنّك تلحّ على معرفة رأيي ما دمت قد قرّرت سلفًا علاقة الواقع باللحظة الإبداعيّة. أمّا الشقّ الثاني من السؤال، فإذا فهمته على طريقتي، فإنّني أجيب أنّ القصيدة تؤرّقني بعد كتابتها فترة طويلة، وهي قابلة عندي للحذف والإضافة والتغيير حتّى بعد نشرها. هناك بعض الشعراء يعتقدون بأنّ في ذلك خيانة لبراءة القصيدة، لهم الحقّ في أن يفكّروا كما يريدون، لكنّني أظنّ بأنّ الشعر الحديث عمل مركّب صعب يحتاج إلى إعادة النظر قبل الاطمئنان إلى صيغته الأخيرة، وهذا لا ينفي تلقائيّة الكتابة وفطريّتها في مرحلة ما من مراحل ولادة القصيدة.

 

«القاهرة»: هناك مصطلحان يتردّدان دائمًا في المهرجانات والندوات الأدبيّة وعلى ألسنة النقّاد: الحساسيّة والحداثة، فماذا يعنيان هذان المصطلحان بالنسبة إلى أحمد دحبور؟

دحبور: كنت أسمع بمصطلح الحساسيّة هذا، وأعتقد أنّه نكتة أطلقها مثقّف مرح في أحد المقاهي، لكنّني قرأتها أخيرًا مضافًا إليها صفة الجديدة. أتمنّى من أصدقائنا الّذين يبشّرون بالحساسيّة الجديدة أن يتكرّموا علينا بتعريف الحساسيّة القديمة أوّلًا حتّى نعرف أن نتفاهم. أمّا الحداثة فلا أظنّنا نختلف على أنّها استجابة إبداعيّة لأسئلة العصر ومستجدّاته، بحيث لا يمكن التعبير عن الأفكار الجديدة بأدوات قديمة، ولهذا فالمبدع مطالب دائمًا باجتراح أشكال التعبير المتوائمة مع تطوّرات العصر وإيقاعه.

 

«القاهرة»: هل ما زلت على اتّصال جماهيري مع الأرض المحتلّة وشعرائها الّذين يعيشون تحت نير الاحتلال الصهيونيّ؟

دحبور: إنّ القنوات الّتي تصل الخارج بالداخل والداخل بالخارج معروفة، فأنا أقرأ إنتاج أهلنا هناك كما يفعل أيّ مثقّف عربيّ آخر، كما أنّ أهلنا هناك يعيدون نشر  إنتاجنا كلّما حصلوا عليه، ويحصل أحيانًا أن نلتقي في أوروبّا ببعض الأشقّاء مثل إميل حبيبي وسميح القاسم.

 

«القاهرة»: تتراوح قصائدك بين المباشرة والوضوح أحيانًا، وبين التوغل في دهاليز اللغة... هل هي التجربة أم الاحتياج لهذا؟

دحبور: لا أدري إذا كان هذا هو واقع الحال في قصائدي، لكنّني أظنّ بأنّ كلّ قصيدة تملي شروطها، إضافة إلى أنّ كلّ شاعر يمرّ بمراحل مختلفة، فمرحلة الحماسة الّتي ظهرت في أواخر الستّينات وأوائل السبعينات هي غير المرحلة الّتي نعيشها اليوم.

 

«القاهرة»: مستقبل الشعر... أعني مستقبل اللغة العربيّة. يرى كثير من النقّاد الكلاسيكيّين أنّ الشعر الحرّ الّذي بدأه جيل صلاح عبد الصبور والسياب (1931 - 1981) وحجازي ونازك الملائكة (1923 - 2007)، ساهم في هدم اللغة العربيّة، وهم يروّجون لهذا في منابرهم. ماذا يعني شكل القصيدة بالنسبة إلى أحمد دحبور؟

دحبور: أعترف بأنّك أوّل مَنْ قال إنّ عبد الصبور وحجازي مِنَ البادئين بالشعر الحديث، فحسب معلوماتي المتواضعة، إنّ هذين الشاعرين ينتميان إلى الجيل الثاني من روّاد الشعر الحديث، وعندما نشرا بداياتهما الحديثة، كانت المكتبة العربيّة قد شهدت عددًا لا يستهان به من مجموعات الشعر الحديث لبدر شاكر السياب (1926 - 1964) والملائكة، وحتّى لأدونيس ونزار قبّاني (1923 - 1998) المتأخّرين نسبيًّا. ولا أدري إذا كانت لديك معلومات توثيقيّة مخالفة، أمّا بالنسبة إلى المحنّطين فقد نسيناهم وإن كانوا لم ينسونا. إنّهم مستحاثّات من العصر الماضي، والتاريخ لا يرجع إلى الوراء. أضف إلى ذلك أنّ الشاعر الحديث حقًّا أكثر كفاءة في تناول الشعر العربيّ القديم واستيعابه من أولئك الملتحفين بأوراق الوهم الصفراء.

 

«القاهرة»: يرى بعض النقّاد أنّ محمود درويش انتهى كشاعر ثوريّ بخروجه من الأرض المحتلّة... ما رأيك؟

دحبور: ما رأيك أنت؟

 

«القاهرة»: أهمّ الشعراء العرب الآن؟

دحبور: محمود درويش طبعًا، ليس لأنّه شاعر عربيّ ثوريّ كبير فقط، لكن لأنّي أعتقد بأنّه أحد أهمّ شعراء العالم في النصف الثاني من هذا القرن.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.